محرقة غزة تفضح تضليل المحرقة اليهودية- نظرة جديدة بعد عقود.

المؤلف: محمود عبد الهادي11.14.2025
محرقة غزة تفضح تضليل المحرقة اليهودية- نظرة جديدة بعد عقود.

تكاد لا تمضي سنة أو سنتان دون أن تُهدينا السينما الغربية تحفة فنية، سواء كانت سينمائية أو تلفزيونية، درامية مؤثرة أو وثائقية مفعمة بالحقائق، تتناول المحرقة اليهودية، تلك المأساة التي ألمت باليهود على يد النظام النازي خلال الحرب العالمية الثانية. لقد طغت هذه الأحداث على المشهد العالمي، حتى بات العالم لا يعرف شيئًا يُذكر عن المصائب والويلات التي عانت منها الشعوب الأوروبية الأخرى على أيدي النازيين، باستثناء هذه المحرقة. وأصبح مصطلح "الحرب العالمية الثانية" في ذاكرة الأجيال الغربية المتلاحقة ملازمًا لهذه المحرقة، كنتيجة حتمية لعملية دؤوبة ومنهجية تنفذها الحركة الصهيونية منذ ما قبل اندلاع الحرب.

لكن، ومع عرض فيلم "حياة واحدة" مؤخرًا في دور العرض، بينما تستعر حرب الإبادة الصهيو-أمريكية الشرسة ضد الشعب الفلسطيني الصامد في قطاع غزة منذ ما يقارب الخمسة أشهر، أصبح من السهل على المشاهدين المقارنة بين ما لاقاه اليهود من قسوة النازيين، وبين ما يرتكبونه هم اليوم في قطاع غزة من فظائع. وقد مكن هذا المشاهدين من الوصول إلى جوهر الحقيقة، دون أدنى شك أو تردد، ليكشفوا النقاب عن حجم التضليل والخداع والابتزاز الذي خضع له العالم طيلة العقود الماضية.

لقد هزت الحرب الصهيونية في قطاع غزة أركان الوعي العالمي، زعزعت كل ما تم تلقينه للناس على مرّ عقود طويلة بشأن المحرقة اليهودية، عبر الأفلام السينمائية، والمسلسلات التلفزيونية، والشهادات الشخصية المؤثرة، والدراسات الأكاديمية المعمقة، والمقالات والتحقيقات الصحفية الدقيقة، والمنتديات والفعاليات والمؤتمرات الدولية.

الحرب المزلزلة

في التاسع من سبتمبر/أيلول عام 2023، قُدِّم فيلم "حياة واحدة" للمرة الأولى في مهرجان تورنتو السينمائي الكندي، وذلك قبل شهر واحد فقط من انطلاق معركة "طوفان الأقصى" وبدء حرب الإبادة الصهيو-أمريكية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. هذا الفيلم لا يختلف كثيرًا عن السلسلة الطويلة من الأفلام التي أنتجتها السينما الغربية الصهيونية للترويج لفكرة المحرقة اليهودية، وتسليط الضوء على المعاناة التي تكبدها الشعب اليهودي على أيدي النازية. ومن بين أبرز هذه الأفلام: "جوليا" (1977)، و"قائمة شندلر" (1993)، و"إنقاذ الجندي رايان" (1998)، و"عازف البيانو" (2002)، و"تذكّر" (2015).

الجدير بالذكر أن فيلم "حياة واحدة" هو إنتاج مشترك ساهمت فيه مؤسسة بي بي سي البريطانية. وقد أدى تزامن عرضه مع الحرب المستمرة في قطاع غزة إلى امتناع موزعي الفيلم عن الإشارة إلى اليهود في الإعلانات الترويجية، واكتفوا بالقول إن الأطفال هم من وسط أوروبا، الأمر الذي أثار موجة من الاستياء والاحتجاج، مما اضطرهم إلى تعديل ذلك لاحقًا.

من حيث الموضوعية، لا يقدم الفيلم أي جديد. أغلب التعليقات والثناءات التي تلقاها الفيلم كانت من نصيب الممثل القدير أنتوني هوبكنز. تدور أحداث الفيلم حول القصة الحقيقية للشاب البريطاني اليهودي نيكولاس وينتون، الملقب بـ "نيكي"، الذي أنقذ 669 طفلًا يهوديًا من معسكرات النزوح واللجوء في تشيكوسلوفاكيا إبان احتلالها عام 1938 من قبل القوات الألمانية في بداية الحرب العالمية الثانية.

لم يخطر ببال منتجي الفيلم، عندما اتخذوا قرار إنتاجه في عام 2020، أن الشعب الفلسطيني في قطاع غزة سيتعرض لحرب إبادة حقيقية وشاملة لم يشهد التاريخ لها مثيلًا، على أيدي جيش الاحتلال الصهيوني اليهودي. حرب لم يتوقع أولئك الذين كتبوا عن المحرقة أن الصهيونية (اليهودية)، التي لطالما صمّت آذان العالم بالحديث عن معاناتها، سترتكب مذابح يومية مروعة ضد المدنيين الفلسطينيين على مرأى ومسمع من العالم أجمع.

إن كل ما عرضه هذا الفيلم من جوانب المعاناة التي تعرض لها هؤلاء الأطفال اليهود، من وجودهم في المخيمات بلا مأوى لائق ولا طعام ولا دواء، وبعيدًا عن ذويهم الذين فروا من بطش النازيين أو اعتقلوا أو قتلوا، لم يعد يجد له صدى في أذهان المشاهدين الذين تضج عقولهم بمتابعة التفاصيل المأساوية لحرب الإبادة الصهيونية اليومية المستمرة منذ خمسة أشهر في قطاع غزة الباسل.

هذه الحرب الصهيونية قد هزت بعنف كل ما استقر في عقول العالم على مدى عقود طويلة حول المحرقة اليهودية، وما تم الترويج له عبر الأفلام السينمائية، والمسلسلات التلفزيونية، والإفادات الشخصية، والدراسات الأكاديمية، والمقالات والتحقيقات الصحفية، والمنتديات والفعاليات والمؤتمرات. كل هذه الوسائل تعبر عن وجهة نظر واحدة، ولا تسمح بتقديم أي رأي آخر، حيث يجب على البشرية أن تسلم بذلك تسليمًا قاطعًا وإلى الأبد.

وستكون هذه الهزة القوية مقدمة لمراجعات شاملة سيشهدها العالم بعد انتهاء حرب الإبادة الجماعية ضد قطاع غزة، على المستويات الأكاديمية والإعلامية والسينمائية والأخلاقية والتشريعية، بهدف تغيير القيود التي فرضت على العقل البشري ومنعته من التفكير النقدي في حقيقة تلك المسلمات، ومن وضعها، وما هي الأهداف التي يسعى إليها.

أكثر من 250 فيلمًا وثائقيًا و235 فيلمًا دراميًا عن المحرقة اليهودية، مدعومة بأكثر من 800 منظمة حول العالم تنفق مليارات الدولارات لترسيخها في أذهان أجيال العالم على مر العصور، فمن ينصف محرقة غزة؟

محرقة غزة

لقد سلكت الحركة الصهيونية دروبًا شتى، واستخدمت وسائل وأساليب متنوعة، ونظمت فعاليات وأنشطة لا حصر لها، وأسست لجانًا ومؤسسات وهيئات عديدة تعمل على تغذية التعاطف والتأييد الذي تحظى به في أوساط الدول الغربية، على المستويين الرسمي والشعبي. كما تستغل هذه الحركة عقدة الذنب لدى الغربيين بسبب تقصيرهم في حق اليهود، من أجل تعزيز وجودها في الدول الغربية، وتحصينه من النواحي السياسية والقانونية والفكرية والاجتماعية، ودعم دولتهم التي أقاموها في فلسطين على حساب الشعب الفلسطيني، وذلك بمساندة وتأييد من الدول الغربية. وتهدف الحركة الصهيونية أيضًا إلى استدرار أموال أباطرة المال اليهود وشركائهم في جميع أنحاء العالم، والتغطية على الجرائم المتتالية التي يرتكبها الكيان الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني.

منذ القرن التاسع عشر، بسطت الحركة الصهيونية نفوذها على وسائل الإعلام في الدول الغربية، وسرعان ما أحكمت قبضتها على شركات الإنتاج السينمائي والتلفزيوني، ودور السينما والمسرح، والتي تم تسخيرها ببراعة واحترافية عاليتين لخدمة قضية المحرقة والمظلومية التي عاناها اليهود على مر التاريخ. حتى بلغ عدد الأفلام الوثائقية التي تناولت موضوع المحرقة أكثر من 250 فيلمًا، وتجاوز عدد الأفلام السينمائية 135 فيلمًا، بالإضافة إلى آلاف الحلقات التلفزيونية والإذاعية، والتحقيقات الصحفية، والمقالات، والفعاليات المختلفة، وخاصة في الدول الغربية.

يتزامن هذا النشاط السينمائي والإعلامي المكثف مع وجود أكثر من 800 منظمة متخصصة في قضية المحرقة اليهودية في جميع أنحاء العالم، بالإضافة إلى المتاحف التذكارية التي يبلغ عددها في الولايات المتحدة وحدها أكثر من 60 مركزًا. كما تقام فعاليات سنوية لإحياء ذكرى المحرقة، تجمع مليارات الدولارات من التبرعات لدعم برامجها وأنشطتها، والتي يشارك فيها غالبية زعماء العالم. فعلى سبيل المثال، جمع متحف المحرقة في واشنطن وحده في عام 2018 مبلغًا قدره 715 مليون دولار من التبرعات بمناسبة مرور 20 عامًا على تأسيسه، وحوالي المليار دولار في العام الماضي احتفالاً بمرور 25 عامًا على إنشائه.

لم تكتف الحركة الصهيونية بهذا القدر في موضوع المحرقة اليهودية، بل سعت جاهدة إلى حماية هذا الموضوع وتحصينه ضد أي محاولات للانتقاص منه أو التشكيك فيه على مستوى العالم، تحصينًا محكمًا يتنافى مع مسلمات العلم والعقل. في هذا السياق، أصدرت العديد من دول العالم قوانين صارمة لتحقيق هذا التحصين؛ القانون الأول يجرم بالسجن أو الغرامة أي تشكيك في وقوع المحرقة سواء على المستوى البحثي أو الإعلامي، والقانون الثاني هو قانون معاداة السامية، الذي يجرم أي أفعال أو أقوال تمس اليهود وتضر بسمعتهم، بما في ذلك انتقاد المحرقة، بغض النظر عن مدى صحة هذه الأفعال والأقوال ومدى وجاهتها العلمية.

علاوة على ذلك، قامت الحركة الصهيونية بإنشاء شبكة واسعة من المؤسسات المتخصصة في رصد كافة مظاهر معاداة السامية في جميع أنحاء العالم، واتخاذ الإجراءات العقابية اللازمة، مستعينة في ذلك بالضغط على المؤسسات الدولية والإقليمية. حتى إن الجمعية العامة للأمم المتحدة اتخذت قرارًا في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2005، باعتبار يوم 27 يناير/كانون الثاني من كل عام يومًا عالميًا للاحتفال بذكرى المحرقة اليهودية.

فهل يعي الفلسطينيون حجم مسؤولياتهم تجاه المحرقة الحقيقية التي تدور رحاها على أرضهم، والتي يتعرض لها شعبهم في قطاع غزة المحاصر، حتى لا ينساها العالم ولا تنساها الأجيال القادمة، وحتى يتم توظيفها في كافة المحافل والمنصات لاستعادة الحقوق المشروعة وتحقيق الآمال والتطلعات المنشودة؟

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة